سورة هود - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


{أذقنا} هاهنا مستعارة، لأن الرحمة هاهنا تعم جميع ما ينتفع به من مطعوم وملبوس وجاه وغير ذلك. و{الإنسان} هاهنا اسم الجنس والمعنى أن هذا الخلق في سجية الناس، ثم استثنى منهم الذين ردتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح.
و {يؤوس} و{كفور} بناءان للمبالغة، و{كفور} هاهنا من كفر النعمة، والمعنى أنه ييأيس ويحرج ويتسخط، ولو نظر إلى نعمة الله الباقية عليه في عقله وحواسه وغير ذلك، ولم يكفرها لم يكن ذلك، فإن اتفق هذا أن يكون في كافر أيضاً بالشرع صح ذلك ولكن ليس من لفظ الآية.
وقال بعض الناس في هذه الآية: {الإنسان} إنما يراد به الكافر وحمله على ذلك لفظة {كفور}، وهذا عندي مردود، لأن صفة الكفر لا تطلق على جميع الناس كما تقتضي لفظة الإنسان.
و النعماء تشمل الصحة والمال ونحو ذلك والضراء من الضر وهو أيضاً شامل. وقد يكثر استعمال الضراء فيما يخص البدن.
ولفظة {ذهب السيئات عني} تقتضي بطراً وجهلاً أن ذلك بإنعام من الله، واعتقاد أن ذلك اتفاق أو بسعد من الاعتقادات الفاسدة، وإلا فلو قالها من يعتقد أن ذهابها بإنعام من الله وفضل، لم يقع ذلك.
و {السيئات} هاهنا كل ما يسوء في الدنيا.
وقرأت فرقة لفرِح بكسر الراء، وقرأت فرقة: لفرُح بضمها، وهذا الفرح مطلق، ولذلك ذم، إذ الفرح انهمال النفس: ولا يأتي الفرح في القرآن ممدوحاً إلا إذا قيد بأنه في خير.
وقوله تعالى: {إلا الذين صبروا} الآية هذا الاستثناء متصل على ما قدمناه من أن الإنسان عام يراد به الجنس: ومن قال إنه مخصوص بالكافر قال هاهنا: إن الاستثناء منقطع، وهو قول ضعيف من جهة المعنى وأما من جهة اللفظ فجيد، وكذلك قاله من النحاة قوم.
واستثنى الله تعالى من الماشين على سجية الإنسان هؤلاء الذين حملتهم الأديان على الصبر على المكاره ومثابرة عبادة الله: وليس شيء من ذلك في سجية البشر وإنما حمل على ذلك حب الله وخوف الدار الآخرة. والصبر والعمل الصالح لا ينفع إلا مع هداية وإيمان، ثم وعد تعالى أهل هذه الصفة تحريضاً عليها وحضاً، بالمغفرة للذنوب والتفضل بالأجر والنعيم.


سبب هذه الآيات أن كفار قريش قالوا: يا محمد لو تركت سب آلهتنا وتسفيه آبائنا لجالسناك واتبعناك. وقالوا: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، ونحو هذا من الأقوال. فخاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على هذه الصورة من المخاطبة، ووقفه بها توقيفاً راداً على أقوالهم ومبطلاً لها، وليس المعنى أنه صلى الله عليه وسلم هم بشيء من ذلك فزجر عنه، فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه، ولا ضاق صدره، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان.
و {لعلك} هاهنا بمعنى التوقيف والتقرير، و{ما يوحى إليك} هو القرآن والشريعة والدعاء إلى الله تعالى كأن في ذلك سب آلهتهم وتسفيه آبائهم أو غيره؛ ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد عظم عليه ما يلقى من الشدة فمال إلى أن يكون من الله تعالى إذن في مساهلة الكفار بعض المساهلة ونحو هذا من الاعتقادات التي تليق به صلى الله عليه وسلم، كما جاءت آيات الموادعة. وعبر ب {ضائق} دون ضيق للمناسبة في اللفظ مع {تارك}، وإن كان ضيق أكثر استعمالاً لأنه وصف لازم، و{ضائق} وصف عارض فهو الذي يصلح هنا، والضمير في {به} عائد على البعض، ويحتمل أن يعود على ها وأن في موضع نصب على تقدير كراهة أن والكنز ها هنا: المال وهذا طلبهم آية تضطر إلى الإيمان: والله تعالى لم يبعث الأنبياء بآيات اضطرار وإنما بعثهم بآيات النظر والاستدلال، ولم يجعل آية الاضطرار إلا للأمم التي قدر تعذيبها لكفرها بعد آية الاضطرار، كالناقة لثمود.
ثم أنسه تعالى بقوله: {إنما أنت نذير}، أي هذا القدر هو الذي فوض إليك، والله تعالى بعد ذلك هو الوكيل الممضي لإيمان من شاء وكفر من شاء.
وقوله تعالى: {أم يقولون...} الآية، هذه {أم} التي هي عند سيبويه بمعنى بل وألف الاستفهام، كأنه أضرب عن الكلام الأول، واستفهم في الثاني على معنى التقرير، كقولهم: إنها لإبل أم شاء، والافتراء أخص من الكذب، ولا يستعمل إلا فيما بهت به المرء وكابر، وجاء بأمر عظيم منكر، ووقع التحدي في هذه الآية {بعشر} لأنه قيدها بالافتراء، فوسع عليهم في القدر لتقوم الحجة غاية القيام، إذ قد عجزهم في غير هذه الآية
{بسورة من مثله} [البقرة: 23، يونس: 38] دون تقييد فهذه مماثلة تامة في غيوب القرآن ومعانيه الحجة، ونظمه ووعده ووعيده وعجزوا في هذه الآية بل قيل لهم عارضوا القدر منه بعشر أمثاله في التقدير والغرض واحد واجعلوه مفترى لا يبقى لكم إلا نظمه فهذه غاية التوسعة؛ وليس المعنى عارضوا عشر سور بعشر، لأن هذه إنما كانت تجيء معارضة سورة بسورة مفتراة ولا تبالي عن تقديم نزول هذه على هذه: ويؤيد هذا النظر أن التكليف في آية البقرة إنما هو بسبب الريب، ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة؛ وفي هذه الآية إنما التكليف بسبب قولهم {افتراه} فكلفوا نحو ما قالوا: ولا يطرد هذا في آية يونس. وقال بعض الناس: هذه مقدمة في النزول على تلك، ولا يصح أن يعجزوا في واحدة فيكلفوا عشراً؛ والتكليفان سواء، ولا يصح أن تكون السورة الواحدة إلا مفتراة وآية سورة يونس في تكليف سورة متركبة على قولهم: {افتراه} وكذلك آية البقرة وإنما ريبهم بأن القرآن مفترى.
قال القاضي أبو محمد: وقائل هذا القول لم يلحظ الفرق بين التكليفين: في كمال المماثلة مرة، ووقوفها على النظم مرة.
و {من} في قوله: {من استطعتم} يراد بها الآلهة والأصنام والشياطين وكل ما كانوا يعظمونه، وقوله: {إن كنتم صادقين} يريد في أن القرآن مفترى.


لهذه الآية تأويلان: أحدهما أن تكون المخاطبة من النبي صلى الله عليه وسلم للكفار؛ أي فإن لم يستجب من تدعون إلى شيء من المعارضة ولا قدر جميعكم عليها فأذعنوا حينئذ واعلموا أنه من عند الله، ويأتي قوله {فهل أنتم مسلمون} متمكناً.
والثاني: أن تكون مخاطبة من الله تعالى للمؤمنين: أي فإن لم يستجب الكفار إلى ما دعوا إليه من المعارضة فاعلموا أن ذلك من عند الله، وهذا على معنى دوموا علىعلمكم لأنهم كانوا عالمين بذلك. قال مجاهد: قوله تعالى: {فهل أنتم مسلمون} هو لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {بعلم الله} يحتمل معنيين:
أحدهما: بإذنه وعلى علم منه.
والثاني: أنه أنزل بما علمه الله تعالى من الغيوب، فكأنه أراد المعلومات له وقوله: {فهل أنتم مسلمون} تقرير.
وقوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا...} الآية، قالت فرقة: ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الكفرة: هذا قول قتادة والضحاك، وقال مجاهد: هي في الكفرة وفي أهل الرياء من المؤمنين: وإلى هذا ذهب معاوية حين حدثه سيافه شفي بن ماتع الأصبحي عن أبي هريرة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل المتصدق والمجاهد المقتول والقائم بالقرآن ليله ونهاره وكل ذلك رياء، «إنهم أول من تسعر به النار يوم القيامة» فلما حدثه شفي بهذا الحديث، بكى معاوية وقال: صدق الله ورسوله: وتلا: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها...} الآية، إلى قوله: {وباطل ما كانوا يعملون}.
فأما من ذهب إلى أنها في الكفرة فمعنى قوله {يريد} يقصد ويعتمد، أي هي وجهه ومقصده لا مقصد له غيرها. فالمعنى: من كان يريد بأعماله الدنيا فقط إذ لا يعتقد آخرة، فإن الله يجازيه على حسن أعماله- في الدنيا- بالنعم والحواس وغير ذلك: فمنهم مضيق عليه ومنهم موسع له، ثم حكم عليهم بأنهم لا يحصل لهم يوم القيامة إلا بالنار ولا تكون لهم حال سواها.
قال القاضي أبو محمد: فاستقام هذا المعنى على لفظ الآية. وهو عندي أرجح التأويلات- بحسب تقدم ذكر الكفار المناقضين في القرآن- فإنما قصد بهذه الآية {أولئك}.
وأما من ذهب إلى أنها في العصاة من المؤمنين فمعنى {يريد} عنده يحب ويؤثر ويفضل ويقصد، وإن كان له مقصداً آخر بإيمانه فإن الله يجازيه على تلك الأعمال الحسان التي لم يعملها لله بالنعم في الدنيا، ثم يأتي قوله: {ليس لهم} بمعنى ليس يجب لهم أو يحق لهم إلا النار، وجائز أن يتغمدهم الله برحمته، وهذا ظاهر ألفاظ ابن عباس وسعيد بن جبير.
وقال أنس بن مالك: هي في أهل الكتاب.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى هذا أن أهل الكتاب الكفرة يدخلون في هذه الآية، لا أنها ليست في غيرهم.
وقرأ جمهور الناس:: {نوف} بنون العظمة؛ وقرأ طلحة وميمون بن مهران{يوف}بياء الغائب.
و {يبخسون} معناه: يعطون أقل من ثوابهم، و{حبط} معناه: يبطل وسقط ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يقتل حبطاً أو يلم»، وهي مستعملة في فساد الأعمال، والضمير في قوله: {فيها} عائد على الدنيا في الأولين؛ وفي الثالثة عائد على الآخرة، ويحتمل أن يعود في الثلاثة على الدنيا؛ ويحتمل أن تعود الثانية على الأعمال.
وقرأ جمهور الناس: {وباطلٌ}بالرفع على الابتداء والخبر، وقرأ أبيّ وابن مسعود: {وباطلاً}بالنصب؛ قال أبو حاتم: ثبتت في أربعة مصاحف، والعامل فيه {يعملون} و{ما} زائدة، التقدير: وباطلاً كانوا يعملون. والباطل كل ما تقتضي ذاته أن لا تنال به غاية في ثواب ونحوه وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8